الاستئصال

لحظة  الاستئصال  العنصري للشعب الفلسطيني

قبل الانسحاب البريطاني في 15 مايو  1948

في 29  نوفمبر  - تشرين الثاني - 1947 ، صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين . و رغم سياسات الانتداب البريطاني بقيت فلسطين عربية و لم تزد الملكية اليهودية لأراضيها عن 5,8 % سنة 1948 . و قد رفض العرب قبول قرار التقسيم الذي أعطى اليهود أكثر من نصف الأراضي رغم أن عددهم حينذاك لم يزد على ثلث السكان .

و بالمقابل ، فقد كان الرد اليهودي انتقائيا : قبول القرار لأنه يعترف بدولة يهودية ، و لكن في الوقت نفسه ، الادعاء بأن القرار الأممي لا يمكن تحقيقه لما فيه من " شروط صهيونية ".

و قال بن غوريون : ( إن الحدود سوف تتم إقامتها بالقوة و ليس بقرارات التقسيم ) .  و لتنفيذ الخطة الصهيونية أنشأ بن غوريون هيئة جديدة هي " المستشارية " و أعلن أمام اللجنة العسكرية للوكالة اليهودية ، في 7 أكتوبر - تشرين الأول - 1947 ، رفضه لقرار التقسيم و أنه لن تكون هنالك حدود برية لدولة المستقبل اليهودية  . و أصبحت المستشارية هي مركز القرار الصهيوني لاستخدام القوة لتحقيق الخطة الصهيونية . بدأ في تطبيق الخطة المنهجية لطرد الفلسطينيين من منازلهم و وطنهم في بداية ديسمبر - كانون الأول - 1947 ، أي بعد أيام من صدور قرار التقسيم ، و قامت القوات اليهودية بشن سلسلة من الهجمات على القرى و أماكن التجمع الفلسطينية و مراكز الشاحنات و الباصات و المحلات التجارية أدت إلى طرد حوالي 75 ألف فلسطيني قبل نهاية 1947 .

و في 10 مارس - آذار - 1948 بدأ بتطبيق خطة داليت التي وضعتها القيادة الصهيونية و كانت أهدافها الرئيسية هي المدن الفلسطينية ، و بعضها تم احتلاله قبل نهاية أبريل - نيسان - و أدت إلى طرد 250 ألف فلسطيني ، و صاحب ذلك عدد من المذابح أشهرها مذبحة دير ياسين .

في 15 مايو - أيار - 1948 ، خرج البريطانيون و على الفور أعلنت الوكالة اليهودية قيام دولة يهودية في فلسطين ، اعترفت بها الولايات المتحدة و الاتحاد السوفيتي . كانت وجهة النظر الصهيونية المقررة تجاه الفلسطينيين هي طردهم ، كما جاء في أحد خطابات بن غوريون :  ( لا يمكن أن تكون هنالك دولة يهودية قابلة للحياة إذا لم تكن نسبة اليهود فيها أكثر من 80%  ) . و أضاف في مناسبة تالية : ( إن الفلسطينيين في الدولة اليهودية يمكن أن يصبحوا طابورا خامسا ، و ليس أمامنا سوى خيارين : إما طردهم أو اعتقالهم و من الأحسن طردهم ( . كما كتب بن غوريون كذلك إلى شاليت : ( إن الفلسطينيين سيكونون تحت رحمتها و كل ما يريد اليهود فعله يمكن أن يفعلوه بما في ذلك تجويعهم حتى الموت ( .

انطلقت السياسة الصهيونية بكل قوة في تنفيذ خطتها لاستئصال الفلسطينيين و إخراجهم من وطنهم ، و تقرر في المستشارية البدء في تنفيذ المرحلة الأولى لطرد الفلسطينيين بكل الوسائل .  و بدأ التنفيذ من 1947 أي قبل إعلان الدولة اليهودية ، تمهيدا طبعا لإعلانها .

الخطوة الأولى كانت بالترهيب ، فقد كانت وحدات يهودية خاصة تقتحم القرى العربية بحثا عن المتسللين و توزع مناشير تحذر فيها من التعاون مع " جيش التحرير " الذي كان قد وصل فلسطين . و كانت تنتهي هذه الاقتحامات بإطلاق النار العشوائي و قتل البعض . و تطورت هذه الهجمات طبقا لتكتيكات أورد وينغيت للترويع و الانتقام و إعطاء أمثلة حية للقرى المنكوبة و المهاجمة .

خساس قرية فلسطينية تقع بالقرب من سهل الحولة ، اختيرت للهجوم إلى جانب قرى أخرى . كانت قرية مسالمة يعيش فيها بضع مئات من العرب المسلمين و مئة من العرب المسيحيين . و في 18 ديسمبر 1947 ، هاجمتها عصابات الهاغاناة و بدأت في نسف بيوتها و الناس فيها نيام ، و قتلوا 15 فلاحا فلسطينيا منهم خمسة أطفال . و تكررت العمليات المماثلة في قرى عربية أخرى منها : النعيمة و جهولة .

مــــــــــــعركة حيـــــــــفا :

تقرر البدء في سياسة جديدة هدفها المدن و اختيرت حيفا لتكون الهدف الأول . و من صباح اليوم الذي صدر فيه قرار التقسيم بدأ الفلسطينيون فيها و عددهم 75 ألفا يتعرضون لهجمة من الإرهاب تقودها عصابة الأرغون و الهاغاناة . كان اليهود قد بنوا مساكنهم على المرتفعات المطلة على المدينة ، و منها راحوا القذائف على السكان الفلسطينيين  ، بدؤوا في ذلك ببداية ديسمبر 1947 . استخدم الصهاينة وسائل أخرى منها : دفع براميل معبأة بالمتفجرات و كرات حديدية على الأحياء العربية ، كما أنهم صبوا النفط المشتعل على الطرق ، و حين حاول الفلسطينيون إطفاء هذه الأنهار من النار ، تعرضوا للمدافع الرشاشة . كما أن الهاغاناة كانت ترسل سيارات إلى المناطق المشتركة بين العرب و اليهود ، بحجة التصليح بعد أن تعبئها بالمتفجرات التي تنشر الموت و الأشلاء . كان وراء هذه الهجمات وحدة خاصة أطلق عليها " هاشاهار " أي الفجر ، تضم " الميسترافيم " أي المتخفين بزي عربي . كان العقل المحرك لهذه الهجمات شخص إسمه داني أغمون حيث كان يقود هذه الوحدات  . و نشرت البالماخ و هي من وحدات الهاغاناة ما يلي عن الحالة في حيفا : ) منذ ديسمبر يعيش الفلسطينيون تحت الحصار و الترويع ( . و لكن التالي كان الأسوأ .  فقد قذفت عصابة الأرغون  بقنبلة على جماعة من العمال العرب و هم يتأهبون لدخول منطقة تكرير النفط ، كان رمي القنابل على التجمعات العربية خاصية الأرغون الذين بدؤوا في ذلك قبل 1947 . و لكن هذا الهجوم على المدنيين الفلسطينيين كان منسقا مع الهاغاناة كجزء من خطة طرد الفلسطينيين من حيفا . و رد الفلسطينيون على هذه العمليات .

المرحلة التالية أدخلت فصلا جديدا في التاريخ الفلسطيني ، فقد قررت القيادة العليا للهاغاناة - كجزء من المستشارية - اكتساح قرية عربية و ذبح سكانها ، امتحانا لرد سلطات الانتداب البريطانية التي لا تزال هي المسؤولة عن الأمن ، و كانت القرية التي اختارتها القيادة اليهودية هي بلد الشيخ التي تضم ضريح عز الدين القسام الذي قتله البريطانيون سنة 1935 .

 صدرت الأوامر للقائد المحلي حاييم افينوام لمواجهة القرية ، و قتل أكبر عدد من أبنائها ، و تدمير الممتلكات و تفادي قتل الأطفال و النساء ، حدث الهجوم في 31 ديسمبر و استمر ثلاث ساعات . قتل حوالي 30 فلسطينيا ،لم يكن كلهم رجالا . و في الوقت الذي كانت قوات الهاغاناة تقوم فيه بمهاجمة بلد الشيخ ، قامت بعمل أشد قسوة و عنفا بمهاجمة الحي الغربي ، وادي رشميا ، في حيفا ، و طرد سكانه و نسف بيوتهم . يمكن القول أن هذه الجريمة هي البداية الرسمية للاستئصال العنصري لطرد الفلسطينيين من كل فلسطين . و لا ننسى أن أثناء هذه الهجمات أغمض الجنود البريطانيون أعينهم !!!

بعد ذلك بأسبوعين ، قامت البالماخ باستغلال هذه الموجة من الإرهاب لمهاجمة حي حواسة في حيفا و طرد سكانه العرب . كان يقطن هذا الحي الفقراء من العرب و يبلغ عددهم حوالي 5 آلاف . قامت البالماخ بنسف أكواخهم و نسف المدرسة الموجودة آنذاك و طرد جل السكان .

توازت هذه العمليات الهجومية مع العمليات الإرهابية لعصابات الأرغون و شتيرن . فقد قاموا بنسف السراي الحكومي في يافا ، و نسف فندق سميراميس في القدس ، الذي قتل فيه القنصل الأسباني ، إلى جانب عدد من المدنيين الفلسطينيين ، و أصبحت هذه العمليات الإرهابية هي الواقع اليومي الذي يعيشه الفلسطينيون . و في باريس صرح ممثل الوكالة اليهودية  : ( كيف يمكنني الدعاية في ظل هذا الواقع ؟ ( .

قامت اللجنة القومية في حيفا بمطالبة سلطات الانتداب البريطاني بتطبيق التزاماتها في حماية الفلسطينيين قبل جلاء القوات البريطانية عن فلسطين ، و لكن بغير جدوى . و استمر أهالي حيفا في المقاومة في حدود إمكانياتهم المحدودة ، و استطاعت الهجمات الإسرائيلية إجبار حوالي 15 ألفا من أهالي حيفا على الخروج .  و لكن القادة الصهيونيين قرروا أن المطلوب هو تكثيف و زيادة و توسيع هجماتهم العسكرية .

صاح يوسف ويتز في المستشارية حين اجتمعت يوم الأربعاء 31 ديسمبر - كانون الأول - 1947 : ( هذا لا يكفي !) . قال ذلك قبل ساعات من مذبحة بلد الشيخ . و كتب في مفكرته الشخصية : ( أليس الآن هو الوقت للتخلص منهم ؟ لماذا نبقي في وسطنا على أشواك تهددنا ) . و كتب أيضا : ( الترانسفير - أي طرد العرب - لا يحقق هدفا واحدا فقط بل يحقق هدفا آخر لا يقل أهمية و هو : طرد العرب من الأراضي التي يفلحونها و تحريرها لحساب الاستيطان اليهودي . الحل الوحيد هو تسفير العرب إلى الأقطار المجاورة ، و يجب أن لا تبقى قرية واحدة أو قبيلة واحدة في مكانها ) .

كان ويتز من أهم عناصر المستشارية و المنفذ المسؤول لعمليات استئصال العرب من فلسطين . و قد وصف عملية الاستيلاء على كل الأراضي الفلسطينية ب : - أنها مهمة مقدسة - . في الأربعاء الأول من يناير - كانون الثاني - عقد اجتماع مطول للمستشارية في بيت بن غوريون ، و انتهى الاجتماع بقرار إنشاء "لجنة الترانسفير " بقيادة ويتز ، و في الاجتماع التالي أبرز ويتز الخطة العملية لتنفيذ سياسات اللجنة . و كان هنالك إجماع على هذه السياسات و الخطط . و في نهاية الاجتماع ، أعطى بن غوريون الضوء الأخضر لسلسلة شاملة من العمليات الاستفزازية و القاتلة ضد كل القرى العربية .....  بقصد قتل أكبر عدد من الفلسطينيين و تدمير قراهم . و أعطى أوامره الشخصية بمهاجمة بئر السبع و قتل الحاج سلامة بن سعيد نائب رئيس البلدية وأخيه اللذين سبق لهما أن رفضا التعاون مع خطط الاستيطان اليهودي في تلك المنطقة .

لم تعد القيادة الصهيونية بحاجة إلى الرد على المقاومة العربية بل قررت تطوير هجومها ، بكلمات ايغال يادين ، نائب رئيس الأركان للهاغاناة : ( ما يجب أن نقوم به هو هجوم شامل .... لا حاجة أن تهاجمنا قرية ...... لنرد  .... ) . و بكلمات قائد البالماخ إسحق سادية : ( من الخطأ الاكتفاء بالرد ..... ما نحتاجه هو أن نعبئ جنودنا بروح العدوان  ) . و تطبيقا لهذه القرارات شنت القوات الإسرائيلية هجماتها على كل الأهداف الفلسطينية لتدميرها و طرد السكان . و منها : قرية لفتا على طريق القدس ، و حي الشيخ جراح في القدس ، و جاء بن غوريون شخصيا في 7 فبراير 1948 ليشاهد لفتا المدمرة و التي طرد سكانها العرب البالغ عددهم 2500 نسمة ، و ليبارك الدمار و الجرائم اللذين ارتكبا فيها . كما شملت هذه الهجمات اليهودية عشرات القرى في كل أنحاء فلسطين . و استخدمت تقنيات جديدة في هذه الهجمات منها قاذفة لهب لحرق الحقول و البيوت و المدن الفلسطينية أشرف على اختراعها عالم يهودي هو ساشا غولدبيرغ . كذلك أنتجوا أسلحة بيولوجية بإشراف لفراييم كاتزير ، و قد أصبح فيما بعد رئيسا لدولة إسرائيل ، و كان هدف السلاح البيولوجي هو تسبيب العمى للناس .

   يعتبر التاريخ الإسرائيلي الرسمي تلك الفترة و حتى أبريل - نيسان - 1948 ، نقطة تحول . فقد تحولت الإستراتيجية اليهودية من الدفاع إلى الهجوم  ، و في وقت لم يكن هناك أية أخطار تهدد غالبية اليهود . و ما بين بداية ديسمبر - كانون الأول - 1947 و نهاية مارس - آذار - 1948 ، أنهت القوات اليهودية المرحلة الأولى للاستئصال العنصري للفلسطينيين . بعد ذلك تحولت العمليات اليهودية المتفرقة ضد المدنيين الفلسطينيين إلى عمليات عسكرية كبرى و منهجية لاستكمال الاستئصال العنصري للشعب الفلسطيني .

خـــــــطة دالــــــــيت :

طرد الفلسطينيون بعد صدور قرار التقسيم حتى 15 مايو 1948 - نهاية الانتداب البريطاني .

حين أظهر بعض قادة الحركة اليهودية العالمية ،الهستدروت ، شكهم في حكمة القرار الصهيوني بمهاجمة الفلاحين الفلسطينيين ، رد عليهم بن غوريون : ( إن أعداءنا هم الفلاحون العرب ) . كانت القوات اليهودية التي تأتمر بأمر بن غوريون ، حينذاك، تزيد عن خمسين ألف جندي تلقى التدريب أكثر من تصفهم على أيدي الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى . و منذ صدور قرار التقسيم في 29 نوفمبر - تشرين الثاني - 1947 ، حتى انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين ، قامت القيادة الصهيونية بالتنفيذ الفوري للخطة الصهيونية : داليت .

كانت عملية "ناشون " من أول عمليات الخطة داليت و هدفها : ( إن الهدف الرئيسي لهذه العملية هو تدمير القرى العربية و طرد الفلاحين ...) و كانت هذه العملية هي أول عملية من نوعها إذ اشتركت فيها كل المنظمات اليهودية المسلحة  و عملت كجيش واحد ، و كان ذلك هو الأساس في بناء الجيش الإسرائيلي فيما بعد .

اختيرت المنطقة الجبلية المحيطة بالقدس للهجوم لتأمين الوضع اليهودي في المدينة . و أصبحت هذه العملية هي نموذج للعمليات التالية . و قد شملت العملية الأهداف التالية : القسطل التي استشهد فيها عبد القادر الحسيني في 9 أبريل – نيسان – 1948 ، و بعد ذلك دير ياسين التي كان يجب محوها بحسب خطة داليت . خضعت دير ياسين لهجوم منظم رغم أنها كانت قد عقدت اتفاقية عدم اعتداء مع الهاغاناة . لذلك قررت الهاغاناة استخدام الأرغون و عصابة شتيرن في الهجوم للتهرب من المسؤولية .

 

 في التاسع من أبريل – نيسان – 1948 ، تم احتلال دير ياسين القرية الجميلة على تلة في الغرب من القدس ، بارتفاع 800 متر عن سطح الأرض . اقتحم المهاجمون الإسرائيليون بيوت القرية و هم يطلقون النار و قتلوا بعض الأهالي . بعد ذلك قامت القوات اليهودية بتجميع بقية السكان في مكان واحد و جرى قتلهم بدم بارد ، كما اغتصب عدد من النساء ثم قتلن بعد ذلك . و قتلوا أيضا 30 طفلا من أبناء القرية ، و بلغ العدد الإجمالي للقتلى حوالي 170 قتيلا . و قامت إسرائيل بإعلان هذه العملية العسكرية بكل " كبرياء"لتجعل دير ياسين " مركز" النكبة و لتنذر الفلسطينيين بأن مصيرهم هو مصير دير ياسين . بعد ذلك قامت العصابات اليهودية باحتلال أربع قرى مجاورة :  كالونيا و ساريس و بيت سوريك و بدو، فنسفت بيوتها و طردت السكان و نهبت ما أمكن نهبه . بعد عملية ناشون ، استهدفت القيادة اليهودية مراكز السكان في المدن ، التي هوجمت حتى نهاية الشهر ، و القوات البريطانية تشاهد و لا تتدخل . و كانت طبريا هي الهدف المدني الأول ، و بعد قصفها بالمدفعية الثقيلة و براميل المتفجرات المنحدرة من التلال ، سقطت طبريا في 18 أبريل – نيسان - ...  و أرسل الملك عبد الله ثلاثين شاحنة لإخلاء السكان و نقلهم . 

 

 حـــــــــيفـــا – تكمــلة

بعد الهجمة الأولى على حيفا اضطر حوالي 15 إلى 20 ألفا إلى الخروج منها. و لكن بقي حوالي 60 ألفا من الأهالي الفلسطينيين تحت رحمة القوات اليهودية المتفوقة (جدا) عددا و عدة . أطلقت القيادة اليهودية على هذه العملية "المقص" لاستكمال عملية طرد سكانها العرب ، بحركة كماشة تقطع اتصال المدينة بمحيطها العربي . أخذت القوات البريطانية موقف المتفرج بل أخلت مواقعها للقوات اليهودية . عندئذ أطلقت القيادة اليهودية على العملية : بيور هامينز أي " تطهير الخميرة" أي إخلاء كاملا من الفلسطينيين . و أصدر القائد اليهودي للعملية مردخاي ماكليف أوامره بكل بساطة و صراحة : ( اقتلوا كل عربي تجدونه ، احرقوا كل شيء و افتحوا أبواب البيوت نفسها ) . و في 22 أبريل – نيسان – بدأ الفلسطينيون للخروج من حيفا تحت النار .

ثم صــــــــــــــــفـد :

بعد سقوط حيفا ، بقيت مدن عربية قليلة حرة منها : عكا و الناصرة و صفد . كان يعيش في صفد 9500 عربي و 2400 يهودي ، معظمهم من المتدينين الذين لا يهتمون بالصهيونية و عاشوا مع جيرانهم العرب على مر السنين و لذلك توهم السكان العرب أنهم لن يعترضوا للعدوان اليهودي ....  و لكن قرار الهجوم على صفد كان قد اتخذ ، و كان يدافع عنها ضابط سوري شجاع و هو إحسان قام الماز ، استطاع أن يدافع عن المدينة بشكل فعال ، و لكنه ، استشهد فجأة في 29 أبريل- نيسان – و الناس في أشد الحاجة لقيادته . و قد كان عدد القوات اليهودية المهاجمة يزيد عن الألف في مقابل مئة مقاتل عربي ، و سقطت صفد ، ليكتب بن غوريون في مذكراته : (أخبروني أنه لم يبق في صفد سوى مئة من كبار السن و قد طردوا إلى لبنان ).

الــــــقــدس : مديــــنة الأشبــاح

لم توفر القيادة اليهودية مدينة القدس ، و في أبريل – نيسان – 1948 احتلت القوات اليهودية الأحياء الغربية فيها . حاولت بعد ذلك احتلال المدينة القديمة و المنطقة المحيطة بها كالشيخ جراح ، و لكن المقاومة المحلية مع بعض المتطوعين و تدخل الجيش العربي – الأردني غير الصورة . و في النتيجة النهائية تمكنت القوات اليهودية من طرد العرب من ثمانية أحياء و ثلاث و ثلاثين قرية في حدود القدس الكبرى . و قد محا اليهود آثار هذه القرى و لكن بعض أجمل البيوت العربية في القدس يحتلها بعض الأسر اليهودية حاليا .

عكـــــــا و بيـــــــــسان :

استمر قتل المدن الفلسطينية ، فاحتلت عكا و بيسان في 6 مايو 1948 ، و لكن عكا أبدت مقاومة ضارية . و بما أن مصادرها المائية كانت مكشوفة تحولت على "كعب أخيل" . فقد صبت فيها جراثيم التيفوئيد ، و اتهمت منظمة الصليب الأحمر الدولية  الهاغاناة بارتكاب هذه الجريمة . و قد أيدت ذلك سلطات الانتداب البريطاني . و تحت الحصار و تسميم المياه و انتشار التيفوئيد سقطت عكا . الضابط الفرنسي اللفتنانت بيتيت وصف ما حدث : ( بعد سقوط المدينة في الأيدي اليهودية تعرضت لنهب منظم و شامل فكان الجيش اليهودي ينهب كل ما تقع عليه أياديه ) . و في 27 مايو – أيار- قام اليهود بمحاولة مماثلة لتسميم مياه غزة ، و لكن القوات المصرية أحبطتها و قبضت على اليهوديين اللذين قاما بالجريمة و هما دافيد هورين و دافيد مزراحي و أعدمتهما . و استمرت الجهود اليهودية في تطوير القدرات البيولوجية بتوجيه و إشراف بن غوريون . و في القوت نفسه ، احتلت بيسان و طرد أهاليها ، و أسر بعض سكانها لاستبدالهم بأسرى يهود ، لدى الجيش الأردني ، كانوا يعاملون معاملة جيدة و حسنة ، على خلاف ما يعامل به حاليا آلاف الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية .

يـــــــــــافــا :

كانت يافا هي آخر المدن التي احتلها اليهود ن بتاريخ 13 مايو – أيار- . و يافا مدينة تاريخية عريقة يعود تاريخها للعصر البرونزي و تضم حدودها أربعا و عشرين قرية و سبعة عشر جامعا . أما اليوم فهناك جامع واحد و القرى اختفت جميعها .

 

 

في العاشر من مايو – أيار- هاجم المدينة 5000 من الهاغاناة و الأرغون ، و حاول الدفاع عنها القائد المحلي المسيحي ميشيل العيسى . و قد صمدت المدينة لحصار دام ثلاثة أسابيع و هجوم امتد من منتصف أبريل – نيسان- حتى نهاية مايو- أيار- . و حين سقطت يافا طرد بالقوة أكثر من 50 ألف فلسطيني و سقط كثيرون منهم في البحر حين حاولت قوارب الصيد الصغيرة إجلاءهم إلى غزة . استمرت بعد ذلك خطة الاستئصال العنصري للعرب ،  في المنطقة ، فاحتلت الشيخ مونس و طرد سكانها و قتل عدد منهم ، و واجهت قرى عربية كثيرة المصير نفسه .

يوم الأربعاء ، 7 أبريل – نيسان- 1948 عقد اجتماع و تقرر فيه : ( تدمير كل القرى العربية في منطقة يافا و طرد كل سكانها ) . كل ذلك قبل أن يدخل فلسطين جندي عربي واحد . و قد تم ما بين 30 مارس – آذار- و 15 مايو – أيار- 1948 احتلال مائتي قرية و طرد سكانها ، و قتل البعض في مذابح جماعية . و تبع ذلك ما بين 15 مايو و 11 يونيو 1948 احتلال و تشريد تسعين قرية أخرى .

إحدى القرى التي احتلت في تلك الفترة : سيرين ، و قصتها تجسم ما حدث لمئات القرى العربية الأخرى في مرج ابن عمر و وادي بيسان ، حيث اختفت اليوم معالم أي وجود عربي طالما ازدهر قبل ذلك .

ســــــيـــريــــــــــــــــن :

احتلت سيرين في 12 مايو 1948 . كانت سيرين قرية معزولة عن بقية القرى و يصعب الوصول إليها بالسيارة . كانت في القرية عائلة أبو الهيجاء يرجع ولاؤها للحاج أمين الحسيني و الحزب العربي ، الملفات اليهودية ذكرت أن عائلة أبي الهيجاء اشتركت في ثورة 1936 و ما تزال تحتفظ بعشر بنادق . هاجمت القوات اليهودية قرية سيرين و جمعت كل السكان المسلمين و المسيحيين ، و أمرتهم بعبور نهر الأردن إلى الشرق – نحو إمارة شرق الأردن- حينذاك . بعد ذلك نسفوا الجامع و الكنيسة و ديرا للرهبان و كذلك كل بيوت القرية . و طردوا كل السكان من أنصار المعارضة و من أنصار المفتي الحاج أمين الحسيني على السواء .

على هذا المنهاج ، استمرت العمليات العسكرية اليهودية في شمال فلسطين من مرج ابن عامر إلى بقية القرى العربية  ، منها : قبية التحتا و قبية الفوقا – كل منهما يسكنه أكثر من ألف شخص - ، خربة الراس ، أبو شوشة ، كفرين ، أبو زريق ، منسي ، نرنرية ، مبارين ، سنديانة ، بريكة ، خبيزة ، أم الشوف ، غوير ، راما .  و في راما استثنت السلطات اليهودية الدروز من الطرد في محاولة لبث بذور الفرقة داخل صفوف الشعب الفلسطيني .

اتبع اليهود نموذجا ثابتا تقريبا مع كل قرية : احتلال القرية ، تجميع الأهالي و فرز بعضهم و إعدامهم أمام أعين الآخرين ، اعتقال الشباب و الرجال ، ثم طرد السكان المتبقين من نساء و أطفال و شيوخ . و قد استطاعت المؤسسة الصهيونية إخفاء الحقائق عن العالم ، عدا حالات بسيطة ، كتغطية مراسل النيويورك تايمز لاحتلال بعض القرى . و يبدو أن كل المراسلين الأجانب خضعوا للإرهاب الصهيوني و تفادوا تغطية الأحداث .

و شارك الماركسيون اليهود من سكان الكيبوتزات في جرائم العدوان على الفلسطينيين ، كما حدث في مستعمرة هامشوميرها- تزاير ، حيث نسفوا البيوت العربية بعد نهبها كلها .

عـــــــــــــين الــزيــــــــــــتون :

قرية عين الزيتون ، بشكل خاص ، تعرضت للاعتداءات الإسرائيلية و ارتكب فيها المهاجمون اليهود ثلاث مذابح . و قد سجل ذلك الكاتب اللبناني إلياس خوري في رواية بـــــــاب الشمـــس ، و التي تروي بصدق و حرفية ما حدث لسكانها . و يذكر الكاتب الإسرائيلي هانز ليبرغت المذابح التي شاهدها بعينيه ، فقد كان جنديا في إحدى الوحدات المهاجمة . يقول أن عين الزيتون قد دمرت كلية ، و كانت جثث النساء و الأطفال بل و الرضع ملقاة أمام الجامع .

يصعب الآن تقدير عدد القتلى و لكن العدد لم يقل عن سبعين و يمكن أن يزيد عن ذلك بكثير و كثير ، و قد وصف أحد مقاتلي البالماخ ، نيتيفا بن – يهودي – و الذي اشترك في مهاجمة القرية ، كيف وضعت القيود في أيدي أهالي قرية عين الزيتون ثم قتلوا . و يقدر عدد القتلى بالمئات . و في النهاية ، فإن العجز العربي أعطى الحركة الصهيونية فرصة لا يمكن على اليهود تفويتها . كما أن بريطانيا هي التي سمحت بحدوث ما حدث تحت أنظار جنودها و قادتها و موظفيها . و هي الدولة المكلفة دوليا و رسميا بالمحافظة على الفلسطينيين و  ممتلكاتهم حتى نهاية الانتداب في 15 مايو – أيار- 1948 ، طبقا لالتزامات هذا الانتداب المتآمر و المشؤوم .

 


ترقبوا الجزء الثالث والأخير  ...

 (محنة التسفير)

0 رد على " "

إرسال تعليق